البيئة التي يُحترم فيها التخصص بيئة تنافسية، رفيعة في الأداء والمخرجات ، والبيئة التي لا تحترمه أو لا تدرك أهميته، تتداخل فيها الأعمال وتتشوه لديها النتائج ، إذ التخصص قوة استندت على تراكمية علمية ، مهّدت للممارسة المنهجية.
والمحامي في المملكة العربية السعودية يتخرّج من كليات محددة ، يتلقى من خلالها مناهج متخصصة ، ويتوّجها بتحقيق الخبرة المطلوبة في النظام،ليوفّق بين التأصيل النظري والتطبيق العملي ، وهذه الاشتراطات النظامية جاءت إيماناً بأهمية دور المحامي في المنظومة العدلية ، وبتأثيره في رسم التشريعات وتقييم تطبيقها ، لكن من المهم أن نتلمّس مكامن القصور التي قد تؤثر على أدائه لعمله ، و الممارسات التي  لا تتواكب مع متطلبات تحقيق  الجودة المنشودة  ، حتى وإن ظنها البعض منخفضة الأهمية ، فالأمر نسبي ، وفي هذا المقال أُسلّط الضوء على مشكلة طال عمرها  وهي: ممارسة غير المختصين لأعمال المحامين! ، فمنظر مكاتب تحصيل الديون مقابل بناية المحكمة ملفت ، وتعلن بلافتاتها للعموم قدرتها على تقديم كل الخدمات التي يختص بها المحامي كــ : تقييد الدعاوى وتكييفها ، وصياغة اللوائح والمذكرات ، مستترة أحياناً ببعض المواطنين في الترافع (كوكلاء فيما لا يزيد عن ثلاث قضايا ) ، دون اكتراث بنظام المحاماة ، ولا بحساسية التعامل مع حقوق المترافعين .
وعندما نسأل عن متطلبات مزاولة عمل تحصيل الديون ، نجدها محصورة في كون المتقدم قد حصل على الشهادة الثانوية ، وقد جاوز عمره الثامنة عشرة ، مع توقيعه لإقرار المزاولة ! ، مع صعوبة في إيجاد" تنظيم" هذه المهنة في موقع وزارة التجارة، وقد حرصت على الاتصال لطلب هذا التنظيم ، فلم أسمع سوى المتطلبات التي ذكرتها آنفاً ! .
إن ضعف الدقة في ضبط اختصاصات هذه المكاتب – من الناحية النظامية-  أوجد من يمارس كل أعمال المحامين دون رقابة أو محاسبة ،وسأذكر بعض النقاط حول هذا الموضوع:
1-خالفت هذه المكاتب نظام المحاماة صراحة ، وقامت بمزاولة أعمال ليست داخلة في نطاق ( تحصيل الديون ) ، وهذا ناتج عن عدم وجود تنسيق رقابي بين الجهات المعنية بهذا الموضوع .
2- الهدفُ الثاني من الأهداف الاستراتيجية للتحول الوطني 2020 ، المتعلقة بوزارة العدل هو : الحد من تدفق الدعاوى في المحاكم.
وارتجالُ غير المختص بتكييف الدعوى ابتداءً ثم قيدها ، سينتج عنه -بلا ريب- تقييد لدعاوى في غير محاكمها المختصة بنظرها، وفي هذا هدر كبير للجهد والوقت والمال لجميع الأطراف ، وتكوينُ فجوة بين عدد الدعاوى المقيّدة والمُنجزة ، مع استصحاب خطورة فوات مصلحة المدعي ، واضطراره لإعادة جميع الخطوات.
3- عندما تُصاغ اللوائح والمذكرات من غير المختص ، وفي مدة يسيرة أمام باب المحكمة ، فماذا ننتظر من هذه الصياغة ؟ هل ستقوم على أساس علمي ، ودقة في وصف الوقائع ، وعرض محكم للأسانيد الشرعية والنظامية ؛ لنستطيع القول حينها بأننا حققنا أقل درجات الضمانات للمترافعين ؟! ،  الجواب دون تردد : لا .
4- تجويد العملية القضائية وتحقيق الشفافية فيها لا يتم إلا بمرافعة متوازنة ، تحققت فيها الضمانات لأطراف الدعوى ، ولجوءُ بعض المترافعين لهذه المكاتب أفرز مذكرات هزيلة غابت عنها أبجديات التحرير العلمي ، وفُقدت فيها الأسانيد الموصلة ، مما أشغل القضاة عن أداء عملهم  الرئيس ، وأثّر على الأداء ، وأطال المدد ! .
5- جاء في رسالة (مكتب تحقيق الرؤية) بوزارة العدل : تنفيذ الأهداف .... من خلال مشاركة أفضل الممارسات .
والذي يُشاهَد أمام المحاكم - العامة والتنفيذ – من وجود مكاتب مؤقتة ومظلات ، بعيد كل البعد عن أفضل الممارسات التي ترفع من جودة التقاضي في المملكة .
6- يتوهم المواطن أو المقيم أو المستثمر الأجنبي نظامية هذه التجاوزات! ؛ ومع غياب الجهات المعنية عن ممارسة دورها الرقابي ترسّخ هذا الوهم ، فلماذا لا يتم التنسيق بين ( وزارة العدل و أمانات المناطق ووزارة التجارة ) مع الجهات الأمنية ، لضبط المكاتب المخالفة لحدود تراخيصها ؟! .
7-هيئة المحامين مخاطبةٌ بشكل صريح في هذا المقال للتحرك تجاه هذه المشكلة ، وقد نصت المادة الثانية من تنظيمها على أن الهيئة تهدف إلى رفع مستوى ممارسة المحامين لمهنتهم وضمان حسن أدائهم لها ، وأن لها في سبيل تحقيق ذلك العمل على تحقيق رعاية مصالح الأعضاء ، والتقدم إلى الجهات المختصة بما تراه من مقترحات تتعلق بالمهنة  ، وهذا النوع من المبادرات يزيد من ثقة المحامين بهيئتهم ، ويرفع من مستوى الممارسة  .
وأختم هذا المقال : بالتأكيد على أهمية التركيز على المفاصل الدقيقة لكل المؤثرات التي تطال استقرار البيئة العدلية ، فهي رافدٌ مهمٌ من روافد التنمية ، ومؤثرٌ فاعلٌ في خلق بيئة استثمارية جاذبة ، تحقق اطمئنان المستثمر المحلي والأجنبي ، ومع إيماننا بأهمية الدقة في رسم الأهداف وصياغة الخطط ، لكنها إن ابتعدت عن  ظروف الواقع، كانت حبراً على ورق .