ننعم في هذا الوطن الغالي بتسابق المجتمع على بذل المعروف والمنافسة على تقديم النفع، ويدعم هذه الرغبة في الخير حرص ولاة الأمر –وفقهم الله– على تذليل العقبات بكل أنواعها، ومواقف المملكة العربية السعودية المشرّفة والمليئة بالإحسان جاوزت حدود البلدان ، فبرز اسمها في مواطن الدعم والمساندة لكثير من الدول والشعوب التي تعرّضت للأزمات.

إن شمولية مبدأ الإحسان في الشريعة الإسلامية كالبناء الذي  يُمكن للجميع المساهمة فيه ،  ولذا جاءت أحكام الشريعة لتحقيق مقاصد وغايات عليا ، يمكن للفقيه أن يستنير بنورها للتعاطي مع مستجدات الزمن ، ومن أسما ما جاءت به الشريعة : سنة الوقف، وهي الصدقة التي أبانت الكثير من محاسن المسلمين، إذ تنوعت صور البذل فوصلت لأدق احتياجات الحياة (كوقف الحليب والسكّر للأمهات)، و امتدت صور النفع لترأف بخيولٍ مسنّة تركها أصحابها لعدم انتفاعهم منها، فكان لها وقف يرعاها حتى تموت، إنها شمولية في الإحسان ، ورفقٌ جاوز حدود المعقول.

 الوقف سنةٌ تبرز حب النفع في هذه الأمة، ونكران مصالح الأفراد الضيقة، وتتجلى معها النظرة الاستشرافية لمصالح المجتمع، لأن الوقف تميّز بخصائص  أضفت عليه صبغة خاصة من بين أنواع البر المختلفة.

ومسألة تأبيد الوقف مسألة خلافية ، تصدى السادة المالكية للقول بأن التأبيد ليس شرطاً لقيام الوقف، وقال بقولهم من المعاصرين ( محمد أبو زهرة و مصطفى الزرقا ) -رحمهما الله- ، بخلاف السادة الحنفية والشافعية والحنابلة الذين رأوا أن التأبيد شرط لقيام الوقف ، ومعتمد تمسك الجمهور بهذا  : نصوص عدة ، من أظهرها ما رواه ابن عمر  –رضي الله عنهم- قَالَ أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ ؟ قَالَ "إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا ". فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُوَرَّثُ ، لِلْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ.

 فلفظ التحبيس منه -صلى الله عليه وسلم- متبوعاً  باختيار عمر –رضي الله عنه- بمنع بيع وقفه، دليل على ارتباط الوقف بالتأبيد عند من اشترطه، لكنّ الجزم بهذا المفهوم محل نظرٍ يمكن مناقشته، في ظل غياب النص (قطعي الثبوت والدلالة)، ولمواءمة قول المالكية للنظرة المقاصدية من الوقف، والتي  يمكن من خلالها مواكبة احتياجات الناس، وهذا دأب علمائنا الأوائل ممن نتج عن فقهم هذا الإبداع في مجالات الأوقاف، وهذا ما يُنتظر من الباحثين المعاصرين ؛ ليتقوى بهم القطاع غير الربحي لخلق الأثر الملموس في التنمية.

ندرك جميعاً بأن الديمومة في الصدقة أنفع للمتصدق ، لكنها أمرٌ نسبي يختلف من مال لآخر، فالفناء يرد على كل مال وقفي، والواقع أن التمسك بخصيصة الديمومة دون مراعاة لتنوع احتياجات الناس واختلاف ظروفهم ، سيحرمهم كشريحة مستهدفة ، وسيحرم أصحاب الأموال من المساهمة في الخير.

ومن الأمثلة المعاصرة للوقف المؤقت: وقف عقار لأقلية مسلمة ليس لديهم مسجد يصلون فيه ، ومنها : وقف سيارات مدة من الزمن على المحتاجين .. وغيرها من الصور التي تتيح المجال لمشاركة الجميع في فعل الخير على اختلاف قدراتهم .  

كما أجزم بأن المبادرة من الفقهاء في المجامع الفقهية والجامعات المتخصصة لحثّ الباحثين لابتكار الصور النافعة في شتى مجالات الحياة ( التعليمية –الصحية- الاجتماعية) ستخلق للوقف مكانةً  لا تُضاهى ، وستسهم في مشاركته الفاعلة في دعم التنمية.

وأختم بأمرين :
1- فعند الاطلاع على (رؤية 2030) تجد أن الدراسات أوضحت أن نسبة مساهمة القطاع غير الربحي من الناتج المحلي هي (0.3%)، وهذه نسبة متواضعة للغاية مقارنة بالمتوسط العالمي (6%)، مما يتطلب من الجميع المساهمة لدفع عجلة المشاركة.

2- وفي خطة التحول الوطني(2020) ورد من ضمن الأهداف الاستراتيجية  التي تحقق تنمية القطاع غير الربحي : تمكين المنظمات غير الربحية من تحقيق أثر أعمق ، من خلال العناية بالابتكار وقياس الأثر الاجتماعي.