ألمحت في المقالين السابقين إلى موضوع مكافحة غسل الأموال بشكل عام وإلى أشهر الجرائم الأصلية التي تتولد منها المتحصلات المستخدمة في (غسل الأموال) ، جريمة غسل الأموال جريمة لها قراءة تاريخية مختلف فيها ، فمن الباحثين من ينسب بداياتها إلى التجار الصينيين المخفين لأموالهم عن سطوة الإمبراطورية ، ومنهم من ينسب البدايات إلى تجّار الذهب الهنود ، ولا شك أن البدايات كانت متواضعة ، وكان التركيز الأبرز فيها على سلامة المال، دون الجزم بوجود أبعاد إجرامية .
لقد مر معنا في المقال السابق وجود منهجين( بارزين )عند التعامل مع الجرائم ، الحصر وعدم الحصر ، ولا شك أن هذا ينسحب على نظرة المراقب عند التعامل مع هذه الأموال ، ومما يحسن ذكره الإشارة إلى اختلاف الدول عند سنها للقوانين الخاصة بمكافحة غسل الأموال ، فمنها من وضع حدّاً (تعريفاً) لهذه الجريمة ، ومنها من سار على الرأي الذي يُسند التعريفات للفقه دون إقحامها في التشريعات(نظام مكافحة غسل الأموال السعودي الجديد لم يعرف غسل الأموال بخلاف النظام السابق) ، كما أشير إلى أمر مهم وملاحظ ، أن مجموعة من التعريفات خلطت بين التعريف والسلوك ، وأخرى خلطت بين المفهوم الاقتصادي للجريمة والمفهوم القانوني لها .
وقد قلتُ في غير مقال أن الفائدة المنشودة من قراءة المقالات حيازة مفاتيح لهذه الموضوعات لا أن يتضلع القارئ منها ويشعر بالاكتفاء عن البحث العلمي الدقيق ، وسأذكر من باب العلم والفائدة تعريفاً لغسل الأموال ثم أُتبعه بسرد مراحل هذه الجريمة مع توصيف مختصر .
عرفت المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول) غسل الأموال بأنه :" أي عمل أو الشروع في عمل يهدف إلى التحكم أو التستر على طبيعة الأرصدة المكتسبة بصورة غير مشروعة ، بحيث يبدو أنها قد جاءت من مصدر مشروع "، وهذا التعريف معتمد (بالإجماع) في الدورة الرابعة والستين للجمعية العامة للإنتربول المنعقدة في الصين .
أما المراحل الثلاث التي تمر فيها عملية غسل الأموال فهي :
المرحلة الأولى : التوظيف أو الايداع placement :
وهي أخطر مرحلة ؛ لأنها في نظري تشكّل المواجهة الأولى ( إرادياً ) تحت غطاء القانون ، فالمجرم عندما يرتكب الجريمة الأصلية أو يقبض الأموال غير المشروعة قد يفلت من قبضة الأمن ، وإذا أراد أن يودع هذه الأموال سيواجه الرقابة الأمنية والقانونية ، وستكون احتمالية الانكشاف واردة جداً .
هذه المرحلة تأتي في صور متعددة من أشهرها الايداع الصريح للنقد في الحسابات الجارية ، وتغيير العملات ، وقد تظهر في عمليات شراء لمجوهرات أو لوحات فنية غالية الثمن !! .
المرحلة الثانية : التغطية layering :
وهذه المرحلة تأتي بعد أن ينجح غاسلو الأموال في فصل هذه الأموال عن مصدرها الحقيقي ، وتسمى هذه المرحلة عند بعض الشراح والمختصين بمرحلة (التعتيم والتمويه) وتجري في هذه المرحلة مجموعة من العمليات المصرفية المعقدة ، ومن أشهر الأساليب فيها ما يعرف (بالدفع من خلال الحساب) عندما يقوم بنك أجنبي بفتح حساب في بنك محلي يستخدمه عملاء البنك الأجنبي لإدارة أنشطتهم المشبوهة بإيداع أموال أو سحب شيكات ، ومن الأمثلة على التمويه : القيام بإنشاء شركات وهمية في دول تُقدّم تسهيلات عند تنقل الأموال .
المرحلة الثالثة : الدمج Integration :
عندما تصل الأموال إلى هذه المرحلة تتصف بالأموال الشرعية ( ظاهرياً بالطبع )، فيصعب حينئذ كشف حقيقتها ؛ لابتعادها عن مصادرها غير المشروعة ، فتندمج في القنوات الاقتصادية لهذا البلد بشكل نظامي ، لهذا اتصفت بالمرحلة الأكثر أمانا من سابقتيها .
وختاماً:
فإن جريمة غسل الأموال تحتاج إلى مزيد قراءة وتنبه ، فقد يقع الإنسان فيها بجهل أو تغافل ؛ يُغرى بالمال أو بالمكاسب والمزايا ، وهذا لا يحميه من المحاسبة .