تأملتُ واقع بعض المجتمعات في ضبط تعاملاتهم المالية ، والتي -بلا شك- تتأثر بمنهجية مؤسساتها الرسمية ، فكلما زادت ثقافة مجتمع ما ، ارتفع سقف التوثيق لديه ، وكان حظ العاطفة ضئيلاً أو منعدماً ، والمجتمعات التي تبرز فيها العواطف و المجاملات تجدها ضعيفة الضبط والتوثيق .
لقد اعتنى العلماء بعلم التوثيق ورأوا ذلك شرفاً في سجلاتهم ، كيف لا ؟ وفي علمهم مساهمة في حفظ العلوم ونقلها ، فالتوثيق والضبط يكافحان ضياع العلوم واندراسها ، يعرف السمرقندي علم التوثيق بأنه : " علمٌ بفقه أحكام كيفية كتابة الالتزام التعاملي، وما له من مكانة مخصوصة في حفظ حقـوق الخلق في محلها المخصوص على وجه الحجية دون البطلان شرعــــــاً "، ولقد جاءت الشريعة بنصوص صريحة تحث على التوثيق ، من بينها قول المولى –جل في علاه- : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ..) ، وعند التوقف للحظات مع هذا الأمر الرباني نوقن تماماً بأن الحكمة في الاستجابة والتنفيذ ، وأن كل التأويلات التي تُطرح هي اجتهادات بشرية قاصرة النظر .
" التوثيق لا ينافي الثقة "، ومن قال أن الكتابة تقدح في الثقة و الأمانة ؟! ، فنزول آية الدين في أشرف المجتمعات وأفضلها دليل على وهن هذا الظن ، فلنتأمل هذه الآية والتفصيل البديع المعجز فيها .
جاء عند البخاري تعليقاً عن العدّاء بن خالد قال: كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا ما اشترى محمد رسول الله من العدّاء بن خالد ، بيع المسلم للمسلم لا داء ولا خبثة ولا غائلة"، والنصوص في أهمية ضبط الحقوق وتوثيقها متكاثرة .
- لماذا تنصرف الأذهان عند طلب التوثيق إلى التخوين ؟!    
لأن كثيراً منا لم يدرك أهمية التوثيق ، وتنوع الطوارئ التي قد تواجهه ، لذا .. نعم أنا أوثق لأن الأعمار بيد الله سبحانه ، نعم أوثق لأني قد أنسى ما علي وما لي من حقوق ، نعم أوثق لأقطع علي وعلى صاحبي مداخل الطمع وعبث الشيطان .
إنني لأحزن عندما أرى أسراً تنازعت بسبب أعطيات غامضة لم تُكتب أسبابها  ، أحزن كثيراً عندما أرى شركاء دخل الشيطان بينهم بسبب تصرفات لم تضبط ومبالغ لم تُبيُنّ مصارفها ، أحزن عندما أرى محسناً أقرض صاحبه فمات المحسن ولم يعلم أحد بهذا الدين ، وأحزن كثيراً عندما تكتب المبالغ بين المضارب ورب المال ثم إذا خسر المضارب جاءه صاحب المال يدعي المال قرضاً !! .
-لماذا نقحم أنفسنا في هذه المتاهات؟
لقد انشغلت المحاكم ومراكز الشرطة بسبب دعاوى تساهل أصحابها في توثيق تعاملاتهم ، وإنك لتعجب حين ترى من تتكرر منه المواقف ، إذ المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ، لكنه أَلِفَ الّلدغ – ولا حول ولا قوة إلا بالله- .
وأختم القول بأن التوثيق درجات ، ولكل واقعة ظروفها ،واستحضار أهمية الأمر تحفز المرء على التحوط والسؤال ، وأعلى درجات التوثيق ما كان لدى الجهات الرسمية (كتوثيق البيع لدى كتابات العدل) ؛ لأن النظام أعطى محرراتها منزلة عليّة ، فنصت المادة الثمانون من نظام القضاء على : " الأوراق الصادرة عن كتاب العدل - بموجب الاختصاص المنصوص عليه في المادة (الرابعة والسبعين) من هذا النظام ـ تكون لها قوة الإثبات، ويجب العمل بمضمونها أمام المحاكم بلا بينة إضافية ولا يجوز الطعن فيها إلا تأسيسًا على مخالفتها لمقتضى الأصول الشرعية أو النظامية أو تزويرها " ، فإن تعذر ذلك فبعقد محكم وبشهود عدول لا يجلبون لأنفسهم منفعة وليس بينهم وبين أحد الأطراف عداوة ، فإن تعذر ذلك فبالكتابة ولا أقل من ذلك .
حفظ الله الجميع من كل سوء .