واجهتْ كثير من الدول التي ظهرت فيها الأنشطة التجارية مبكراً المزايا والعيوب ، وسبرت أسباب النجاح بحكم الأسبقية ، ولأنها مجتمعات جريئة ومبادرة ، فهي في الغالب تحتضن من يبحث سبل الوقاية قبل الحاجة للعلاج .

عنوان المقال يشابه مصطلح (طبيب العائلة) : وهو المعالج الذي يكون قريباً من العائلة ويُدرك تاريخها المرضي ويكون لصيقاً بأفرادها ، وليس غريباً بأن نقرأ في بعض الكتابات التشابه بين دور (الطبيب والمحامي) ؛ فكلاهما مستودع الأسرار وفأل العلاج ، يقول هنري روبير – نقيب المحامين بباريس سابقاً – في مقالة له بعنوان    (المحامي) : " من هذه الوجهة يتساوى الطبيب والمحامي من حيث الحياء ، فلا وجود للحياء الجسماني أمام الطبيب ، وكذلك لا وجود للحياء الأدبي أمام المحامي وهو يستقبل كل يوم أناساً ما كان يخطر بباله أنهم أحياء يستأمنونه على حوادثهم الخاصة التي كتموها حتى عن أقرب الناس إليهم " [1] .

يندمج المحامي بعد تخرجه في ميدان العمل ، فيقف على كثير من المشكلات القانونية ، ويؤسس نفسه عملياً بمبادئ الصياغة والمراجعة للعقود ؛ ليجمع بين ما تعلمه نظرياً في دراسته وما قابله في الواقع العملي ، ويكتسب المهارات الملائمة للانطلاق والتطوير ، ويصنع لنفسه قاعدة يمكن من خلالها أن يتعامل مع المشكلات في صورتها البدائية لمعالجتها .

أكدتُّ في مقالة سابقة على أهمية التخصص للمحامي ، وأنه نقطة الانطلاق للتميّز والبروز ، ولا يمكن للمرء أن يستوعب كل التخصصات ويتعمق فيها ، فلا العمر يسمح ولا القدرة البشرية تساعد ، وحين يتخصص المحامي في مجالات محددة ويدور في فلكها ، سيبرع ويُعرف ، ويكون مقصداً للطالبين .

وفكرة ارتباط العائلة بـ (محامٍ) مطلعٍ على احتياجاتها القانونية ، حريّة بالاهتمام والتأمل ، ويخضع تقدير الأهمية لكثرة التعاملات وتنوع احتياجات العائلة ، وهنا أشير إلى ملمحٍ مهم ، فدور المحامي لا يقتصر على حل المشكلات و فضّ النزاعات، بل دوره في الجانب الوقائي أهم وأظهر ، فحين يلجأ إليه أحد أفراد العائلة لاستشارته في صفقة بيع أو شراءٍ ، والآخر في عقدٍ مع جهة عمله ؛ ليبصّرهما بالموقف القانوني ، وبما لهما وما عليهما من حقوق ، حينها نستطيع القول بأن هذه العائلة جنبّت أفرادها الكثير من المشكلات ، ونحن في مجتمعنا بأمسّ الحاجة إلى الإيمان بهذا المفهوم ؛ لأنه داخلٌ في عموم فكرة الاستعانة بالمختص ، الذي يقرأ الموقف بالعين الفاحصة .

س/ هل محامي العائلة مُطالب بالقيام بكل الأدوار القانونية ؟

ج/ الإجابة من خلال نقطتين :

1- هناك مستوى من العمل والمعلومات والأداء ، يتقارب فيه كثير من المحامين وهو : إتقان الأساسيات في أغلب التخصصات ، ومن هذا المستوى يمكن أن ينطلق بالبحث والتثبت من المعلومة وتقديمها لطالبها ، في نطاق محدود .

2- عندما تكون الخدمة تخصصية دقيقة وذات أثر عميق ، وليست من اختصاص مكتب محامي العائلة ، فمن الحكمة أن يتولى الأخير ترشيح مختص يتقن إنجازها بمتابعة منه ، كما يفعل طبيب العائلة عند مواجهة حالة تستدعي العرض على مختص بها  .

ومن هذا المقال ، يُثار استدراك مهم وهو : ارتفاع تكاليف العقود التي قد تعيق تطبيق هذه الفكرة!.

والمقترح : أن يُفرّق بين العقود التي تُقدّم للكيانات التجارية والعقود المرتبطة بالعائلة ، إذ يغلُب على العقود المقدمة للكيانات التجارية ارتباطها بالساعات ، سواء تم استنفادها أم لا ، بيد أن الارتباط بالعائلة تُراعى فيه جوانب مصلحية عديدة ( الحد من القضايا ، التبصرة الحقوقية ) ، وأيضاً ومن باب التحفيز على دخول هذا المجال لكلا الطرفين ، أن يكون العقد العائلي أيسر - التزاماً وكُلفة - ، ويكون ذلك بإعادة النظر في تسعيرة الساعات ، فيرتبط الحساب بما يُنجز من العمليات ، و يؤقت الدفع بشكل شهري أو ربع سنوي ، ويُجنّب سلفاً وقت الاتفاق العمل الكبير ( كالمرافعات ؛ لطول مددها واختلاف وقائعها ) ، وحرصت في هذا المقال على اجتناب الدخول في تفاصيل العقد ؛ إذ لكل علاقة ظروفها ولكل مكتب سياسته .

وأختم هذا المقال بحثّ الطرفين ( العائلة ، المحامي ) على الصدق في التعامل ، فهذه العلاقة أشبه بالشراكة التي تقوم على الرعاية الدائمة ، وفي كثير من المجتمعات يحظى  محامي العائلة بمنزلة عليّة تؤهله للحديث باسمها ، وفي صور أخرى تمتد العلاقة لأكثر من جيل ، ولا يمكن أن تصل العلاقة إلى هذا المستوى إلا بحرص الطرفين على النفع المتبادل ، وأزعم بأن في هذا المسلك الفائدة الكبيرة التي ستظهر تدريجياً في مجتمعنا المبارك .