تتجه أنظار المختصمين نحو القضاء الرسمي كجهة أولى تفصل في منازعاتهم؛ إيماناً منهم بأن الدولة بمؤسساتها القضائية قادرة على تبيين الحقوق وإلزام الأطراف بتنفيذ النتائج ، وهناك وسائل بديلة للفصل في المنازعات تتفوق على القضاء بجملة من المزايا ، منها ماله طابع الإلزام كالتحكيم، ومنها ما يفتقد هذه الميزة كالوساطة والتوفيق.
لقد جرّب الناس التحكيم منذ زمن قديم، ونُقلت لنا صور تحكيمية منذ زمن الجاهلية، ثم في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- واستمر هذا إلى وقتنا الحاضر، ومع ثبات أركان الدولة الإسلامية واستحداث الوظائف فيها، وُجدت المحاكم الرسمية وتطورت، وانتظمت الأعمال وعَلَت سلطةُ القضاء.
هذه السلطة القضائية اكتسبت قوتها من تفويض ولي الأمر، وبالتالي فمتى ما أعطى ولي الأمر الإذن في إضفاء صفة الإلزام على وسيلة أخرى ومكّن أحكامها من النفاذ، كان لها ما للقضاء من القوة والاحترام.
استمر الاهتمام بالتحكيم، فصدرت بتنظيمه القوانين والتشريعات، ليكون قرين القضاء وصنوه، ومن أبرز ما يميّزه : احترام إرادة أطرافه، ويظهر ذلك في مواضع، عند اختيار المحكمين، وعند تحديد المواعيد، وعند اختيار أماكن انعقاد الجلسات، وغيرها.
وقد صدرت قواعد وتنظيمات ترتب إجراءات التحكيم وتوضح قواعد الإسناد فيه، من منظمات دولية ومراكز إقليمية ومحلية، مع تحديث مستمر و مواكبة لتطورات الأعمال التجارية في العالم؛ إيماناً من الجميع بأن تيسير عملية التقاضي عن طريق التحكيم ميزة تجذب المستثمرين، بينما لا يزال القضاء -في كثير من الدول- يعاني من شيخوخة في الهيكلة وتباطؤ في الإجراءات .
وفي المملكة العربية السعودية خُصصت ميزانية كبيرة لتطوير المرفق القضائي، فافتتحت المحاكم المتخصصة، وتطورت البنية التحتية، وتيسرت كثير من الإجراءات عن طريق التقنية، ولأن الطموح هو : الوصول إلى الريادة في كثير من المجالات، فإن الواقع لا يزال في حاجة إلى مزيد من العمل والتطوير ومناقشة المهتمين، فتدفق القضايا، وتباعد المواعيد، لم نصل فيه إلى معالجة مرضية - مع تقديري للجهود المبذولة - .
ومن الدعم الذي حظيت به البيئة العدلية في المملكة العربية السعودية، اهتمام القيادة بالتحكيم، إذ صدر قرار مجلس الوزراء رقم ( 257 ) في 14/6/1435هـ القاضي بإنشاء المركز السعودي للتحكيم التجاري، والذي بذل العاملون فيه جهوداً ملحوظة عند تأسيسه، فاستقطبوا الكفاءات، وسعوا في نشر ثقافة التحكيم وإبراز خصائصه ومزاياه، وهذا المركز يُمثّل نوعاً من أنواع التحكيم وهو (التحكيم المؤسسي) : الذي يُطبّق تحت مظلة هيئة أو مركز أو جهة ( دولية أو محلية ) بقواعد وإجراءات خاصة، بخلاف التحكيم الحر : الذي يتبناه الأفراد ويرسموا آلية إجراءاته، دون قيود والتزامات كالأول، شريطة عدم مخالفة نظام التحكيم أو مخالفة النظام العام.
وقد ذكرت أنّ في التحكيم مزايا تقدّمه على القضاء من أهمها : السرعة؛ وذلك لمرونة الإجراءات وخضوع الكثير منها لرغبة المحتكمين، ومنها : السرية، فكثير من المتنازعين لا يفضّلون الاتجاه للقضاء؛ تحسباً من انتشار الخبر أو الوقائع ، واحتمال تأثير ذلك على مصالحهم أو علاقاتهم الاجتماعية، لذا جاء التحكيم بطابعٍ مختلف، وأرى أننا في بداية الممارسة المؤسسية، وأرجو أن نستحث السير، وأن تُبرز التطبيقات للجمهور، فالتنظير وحده دون إظهار للنتائج يجعل الصورة ناقصة، كما أن منطقية الأتعاب وتوضيحها، ستُحفز الجمهور على اختيار المركز جهة للفصل حال حدوث النزاعات، وقد سرّني إعلان المركز السعودي للتحكيم التجاري عن إقامة المؤتمر الدولي الثاني للتحكيم التجاري في يومي 15-16 من شهرصفر 1441هـ، بمدينة الرياض، وأدعو الله بأن تتحقق النتائج المأمولة منه .