تختلف المنشآت الاقتصادية في حجمها، وتتباين في قوة مواقفها الإئتمانية ، والسيولةُ النقدية لدى أغلب المنشآت هي المحرك الحقيقي لعملياتها التجارية، و تختلف مصادرها، فتأتي في صورة تمويلات بنكية، أو نتيجة لبيع أعيان، أو من خلال ضخ للسيولة من شركاء جدد  ... إلخ ، وقد ظهر نوع من العقود يحقق بعض الفوائد المرتبطة بالتمويل بشكل يختلف عن الطرق التقليدية، هذا العقد الذي ظهر في انجلتر في القرن الثامن عشر، ثم انتشر فوصل إلى الولايات المتحدة و فرنسا، ثم إلى دول أوروبية، مع ندرة في تواجده في الدول العربية ، هو عقد : الفاكتورنغ ( عقد شراء الديون والحقوق التجارية). 

تأتي صورة هذا العقد ، في قيام منشأة تجارية ( لديها مستحقات وديون على آخرين)، باللجوء إلى مؤسسة مالية ( مؤسسة فاكتورنغ)، تعرض المنشأة على المؤسسة جميع فواتيرها ومستحقاتها على الغير ، فتنتقي المؤسسة فواتير مناسبة –وفق ضوابط خاصة بها – لتشتري هذه الحقوق والديون وتحل محل المنشأة ( فتصبح هي الدائن للغير)، مقابل تقديم سيولة للمنشأة –غالباً حاضرة- ، فتدفع مثلاً ما نسبته 85% من قيمة هذه الفواتير، وتؤجل الباقي مع خصم النسبة الخاصة بها، وهذه العملية تتم بسرية بين الطرفين ؛ لاحتمالية تأثر سمعة المنشأة ؛ إذ يوحي فعلها هذا بعدم استقرارها المالي ، أو بعدم تنظيمها لدفاترها التجارية .


تقوم مؤسسة الفاكتورنغ بمجموعة خدمات لهذه المنشأة ، من أهمها : 
ترتيب دفاترها التجارية وتنظيمها .2- تقييم موقف المدين ونقل الصورة الحقيقة عن ملاءته من خلال مؤسسات فاكتورنغ صديقة في بلده ، 3- تمويل المنشأة بالسيولة ( وهذه الخدمة هي الأهم) 4- ضمان عدم الرجوع عليها حال تخلف المدين عن السداد ( المغامرة أمام الديون المعدومة ) 5-  دراسة الموقف القانوني والمالي للمنشأة، كما يحقق هذا العقد فوائد لمؤسسة الفاكتورنغ من أهمها تمكينها من تشغيل أموالها والاستفادة من النسب العائدة من الفروقات في تحصيل الديون، كما أنها قد تقدم خدمة مستقلة كالدراسات والتحصيل ، في حال استبعدت المنشأةُ مسألة بيع المستحقات ( وإن كانت هي الفكرة الأساس في التعامل).

لما كثرت الممارسات الدولية لعقد الفاكتورنغ ، ظهرت اتفاقية دولية في عام 1988م لتوحيد قواعد هذا العقد وتنظيم عملياته، وهي : اتفاقية اوتاوا ، ودخلت حيز التنفيذ عام 1995م بعد اكتمال توقيع عدة دول من أبرزها ( فرنسا-إيطاليا-نيجيريا )، أما في الدول العربية فكثير من الدول لم تنظم هذا العقد بشكل واضح –حسب بحثي-، مع وجود تجارب في لبنان والمغرب وتونس . ويُشكِل من هذا العقد تضمنه لجملة من الوظائف التي تحتاج إلى دراسة مستفيضة، لا من الجانب القانوني فحسب ، بل من جوانب عدة ( شرعية – مالية-اقتصادية محلية ودولية ) .

يتضح من هذا العقد أنه يُحقق مصالح واضحة لأطراف العلاقة ، لكن تجده عند البحث الفقهي يزاحم جملة من المحاذير الشرعية ويقع فيها ، فبعض صوره  تطابق مسألة شراء الدين بالدين ( إذا أجّلت مؤسسة الفاكتورنغ سداد المستحق للمنشأة ) وهي من المسائل المحرّمة لتقابل دينين في ذمة كل منهما، كما أن فكرته الأساس القائمة على التمويل بمال مقابل مال يختلف في المقدار مع احتمالية التأخر في التقابض، توقعنا في صورٍ لربا الفضل والنسيئة المحرَّمين .

والخلاصة من هذا المقال ، أن هذا العقد بصورته التقليدية المتكاملة لا يمكن تطبيقه لكثرة مخالفاته الشرعية، ولن يقف هذا أمام إبداعات الفقهاء المعاصرين المختصين بدراسة نوازل العقود المرتبطة بالمعاملات المالية، ففي المجامع الفقهية واللجان الشرعية في المؤسسات المالية قاماتٌ نالوا قصب السبق في جملة من مخرجات الدراسات الفقهية التي تأثرت بها تطبيقات لمصارف محلية وغير محلية ، ومن المبهج أن تقرأ مقترحاً قُدم إلى مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر لعقد ( فاكتورنغ ) بمنهجية فقهية مؤصلة، حظي بقبول المجمع ، فحريّ بالباحثين والمهتمين ، أن يبذلوا من علمهم في معالجة النوازل ، وحريّ  برجال الأعمال والمستفيدين ( المتوقعين ) من مثل هذه العقود أن يقوموا بدوهم المجتمعي  بدعم مراكز البحوث والدراسات المختصة ؛ لنخرج بمنتج مجوّد من جميع النواحي.