تتأسس فكرة مكافحة الفساد في شريعتنا الغرّاء من قواعد و نصوص صريحة وردت في الكتاب والسنة ، وأستحضرُ كثيراً حزمَ النبي صلى الله عليه وسلم مع أحد عماله على الصدقة وهو ابن اللتبيّة عندما مايز بين مال الصدقة ومالٍ  آخر أُهدي إليه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فهلّا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً ؟. فهذه المحاسبة الدقيقة لعاملٍ على الصدقة؛ رسمت منهجاً بيّناً لتعامل الوالي مع تجاوزات عمّاله ، فالمال العام له حساسية بالغة؛ لارتباطه بعموم الناس ومساسه بمصالحهم، والجُرأة على مصلحة العموم من أجل أنانية أفرادٍ جنايةٌ شرعية ونظامية .

وفي يوم 15 /4/1441هـ صدر الأمر الملكي الكريم برقم 277/أ ، بالموافقة على الترتيبات التنظيمية والهيكلية المتصلة بمكافحة الفساد المالي والإداري، منسجماً مع جملة من الأنظمة والأوامر والتوجيهات التي تقصد مكافحة الفساد وتجفيف موارده، وسأقف من خلال هذا المقال على جزئية قانونية مهمة وردت في الفقرة ( ثامناً) من هذه الترتيبات ،ترتبط بمسألة : نقل عبء الإثبات.

قد تكلم فقهاء الشريعة والقانون عن مسألة الإثبات بشكل عام وأفاضوا في الحديث عنها ، والمنهج الذي رجحه كثيرون هو عدم حصر وسائل الإثبات ، وأن البينة هي كل ما أبان الحق، وأن على القاضي فحص الوقائع وسبرها ومناقشة كل ما يقع على طاولته دون جمود  ، و من أشد المواقف حرجاً في هذه المسألة : تحديد من يقع عليه عبء الإثبات ، وفيها جملة من المسائل: كتمييز المدعي والمدعى عليه ، ومعرفة الأصل والظاهر ... وغيرها،  يقول السنهوري:" فقد يكون الحق متراوحاً بينهما لا يستطيع أي منهما أن يثبته أو ينفيه، فإلقاء عبء الإثبات على أحدهما معناه حكم عليه أو حكم لخصمه " .

إن من المتقرر ابتداءً معرفة أن ذمة الإنسان بريئة وليست مشغولة بحق ، وعلى من يدعي خلاف هذا الأصل الإثبات ، لكن كيف سنحدد من يقع عليه عبء الإثبات ؟ وهل الأمر مرتبط بصفة الأطراف أم بمزاعمهم ، فيتنقل بين الأطراف بحسب المسألة المراد إثباتها ؟.

ليس الأمر محصوراً في إثبات الدعوى بشكل عام ، بل يدور مع المسائل المتناولة أمام منصة القضاء، ومن أمثلة تنقّل مسألة عبء الإثبات: اليمين المردودة من المدعى عليه ، وبينة العكس. واليمين مع الشاهد من المدعي:  مع أن اليمين تُشرع في حق المدعى عليه عند خلو جانب المدعي من البينة، ولكن ثبت عن النبي صلى عليه وسلم أنه قضى بشاهد ويمين، فسمع اليمين من المدعي لقوة جانبه المدعوم بالشاهد ، والحديث عن مسألة الإثبات يطول .

بيد أن هذا الأصل الذي أشرت إليه وهو براءة ذمة المدعى عليه وأنه لا يُكلّف بالإثبات، لا يُسلّم به على كل حال، فقد يصادمه عرف مستقر ، أو اقترانٌ بتهمة ، ومن أبرز ما يطرأ على هذا الأصل وينقل عبء الإثبات إلى المدعى عليه: دلالة الحال، فمن تغير حاله وطرأ عليه الثراء وهو في مكان مسؤولية يباشر من خلاله مصالح للناس ، جاز النظر في أمره؛ إذ  الأصل ارتباط حاله بما يتقاضاه بشكل مشروع من خلال عمله، ومراعاة حاله قبل الوظيفة وبعدها يعطي دلالة للعين الفاحصة ، وهنا يُطلب منه تبيين هذا التغير والاختلاف في دخله ، ولا يقال الأصل براءة ذمته، فإن أثبت أن هذه الثروة جاءت من طريق مشروع وأقنع القضاء بذلك فقد سلم، وإن عَجَزَ حوسب، مما يعني أنه المطالب بالإثبات عن تغير حاله وإن كان مدعى عليه.

وفيما يلي أنقل لكم نص الفقرة ( ثامناً ) من الأمر الملكي المشار إليه ، التي صيغت بدقة وإحكام :
" ثامناً : إذا طرأت على ثروة الموظف العام ومن في حكمه بعد توليه الوظيفة زيادة لا تتناسب مع دخله أو موارده بناءً على قرائن مبنية على تحريات مالية بارتكابه جرائم فساد مالي أو إداري؛ فيكون عبء الإثبات عليه للتحقق من أن ما لديه من أموال نقدية أو عينية تم اكتسابها بطرق مشروعة ويشمل ذلك الزوج والأولاد وأقاربه حتى الدرجة الأولى، وفي حال عجزه عن إثبات مصدرها المشروع؛ تحال نتائج التحريات المالية إلى وحدة التحقيق والادعاء الجنائي في الهيئة، للتحقيق مع الموظف المعني واتخاذ ما يلزم نظاماً لرفع الدعوى الجزائية أمام المحكمة المختصة؛ لطلب معاقبته وفق المقتضي الشرعي والنظامي، على أن تشتمل الدعوي طلب استرداد أو مصادرة الأموال المتصلة بالجريمة في حال ثبوتها " .