ألمحتُ في مقالات سابقة لمفهوم الحوكمة بشكل عام، وقد كتب جمع من المختصين الكثير من المقالات عن الحوكمة وتطبيقاتها المرتبطة بتطوير قطاعاتهم، ومما نُوقش : أفضل الممارسات للحوكمة في القطاع العدلي، فهناك أطروحات عدة تناولت هذه الموضوعات وتطبيقاتها في المؤسسات القضائية عالمياً، ومنبع هذا الاهتمام؛ ثقل تأثير القطاع العدلي على المؤشرات المحلية والعالمية، ومن خلال هذه المقالات سأتناول بعض مبادئ الحوكمة من المنظور العدلي.

تحظى الاستقلالية بمكانة بارزة من بين مبادئ  الحوكمة، ولتحقيقها أثر بيّن في تحديد الصلاحيات وضبط الأدوار ووضوح المهام على نطاق الأفراد و فيما بين الكيانات ، وعندما نقرأ هذا المبدأ على صفحة القطاع العدلي، نجده  يُؤسسُ ابتداء بوضوح الصلاحيات لجميع الجهات التي يصب عملها في تحقيق العدالة (جهات الضبط- جهات التحقيق – القضاء)، وبالتركيز على المؤسسة القضائية نجد أن الاستقلالية تنشأ من تفرّد المؤسسة القضائية بترشيح منسوبيها وفق المعايير التي تحددها ثم تطورّها، والتي تساعد في تمييز الكفاءات القادرة على التعامل مع متطلبات ومستجدات العمل، ولذا فلا يصح أن تتأثر هذه المعايير بأي مؤثر خارجي يُضعف نتاج المؤسسة؛ بإلصاق من لا تُسعفه قدراته العلمية أو مهاراته الشخصية لتحقيق غاياتها وأهدافها .

وعندما يُرشّح المرء للقضاء ويباشره، فإن الأنظمة التي كفلت للسلطة القضائية استقلالها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، حفظت له استقلاله كقاضٍ ينفرد في نظر الوقائع المعروضة بين يديه، و بإصدار أحكامه وفق اجتهادٍ بالطرق الشرعية المعتبرة،  بعيداً عن أي تأثير، وهذا التأثير لا ينحصر بما يأتي من غيره، بل يشمل ما كان صادراً من ذات القاضي، كتأثير عداوته مع أحد الخصوم، وغيرها من المؤثرات التي قد تحرف مسار القضية، ومما يعزز من مكانة استقلال القاضي تنفيذ أحكامه؛ لأنها الثمرة والمقصود من تنصيبه، وتأخير تنفيذها أو إيقافه دون مستند، عدم احترام لها، مما يُفقد ثقة الناس بأحكام القضاء ويمس استقلاله، ومما يدعونا للسرور، تمكّن المملكة من تحقيق مرتبة متقدمة على مستوى العالم في مؤشرات استقلال القضاء وفق تقارير التنافسية، وهذا –بعد فضل الله- جاء نتيجةً لحرص قيادتنا ودعمها للجهات العدلية، وتمسّكـها بسيادة القضاء واستقلاله، والمحافظة على هيبته، ولا أدل على ذلك من تأكيد المادة السادسة والأربعين من النظام الأساسي للحكم على أن: ( القضاء سلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية)، وتأكيد المادة الأولى من نظام القضاء على أن: (القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحد التدخل في القضاء).

ومما يجب مراعاته لتحقيق هذا المبدأ : تجنيب الإعلام الخوض في القضايا المنظورة، سواء كان بالتعاطف مع أحد الخصوم أو بالتحريض عليه؛ لأن هذه التجاذبات قد تؤثر على كيان القاضي وتخلق لديه انطباعاً يمس عدالة الإجراءات و الحكم، كما أن صدور حكم مخالفٍ لما رسمه الإعلام عن أطراف القضية وبعض وقائعها، يهزّ ثقة الجمهور بالأحكام القضائية، ويؤثر على استقلال القضاء وحياده.

ختاماً : فإن تحقيق هذا المبدأ –الاستقلالية- ، والبدء به عند رسم منهجيات العمل، دليل اهتمام بالأولويات، وإدراكٍ للمقدّمات، ووفقاً لتقرير التنافسية العالمي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن تعزيز مبدأ الاستقلالية، لا ينحصر أثره الإيجابي على القطاع العدلي، بل يمتد أثره لمناخ الأعمال وجاذبية الاستثمار، وهو مما يقصده ويسعى إليه الجميع .