يتردد مصطلح ( أصحاب المصالح ) كثيراً عند الحديث عن الحوكمة، وتختلف توصيفات المختصين لهذا المصطلح باختلاف المحددات ( الداخلية-الخارجية)، و سائغٌ أن يقال: أن أصحاب المصلحة ( 1- من يملك اتخاذ القرار 2-من يستطيع منعه 3- من يتأثر بالقرار 4- من يملك المعلومات ذات الصلة )، والتعامل مع أصحاب المصالح يختلف –بلا شك- بين حوكمة قطاع وآخر، ولمّا كانت هذه السلسلة تُعنى بالحوكمة العدلية في الجهات الثلاث ( الضبط-التحقيق-القضاء)، فإن أصحاب المصالح كثر، ويمكن الإشارة إلى بعضهم في هذا المقال. 

فالمدّعون و مقدّموا البلاغات الذين يتعاملون مع جهات الضبط و جهات التحقيق والقضاء هم عنصر مهم من أصحاب المصالح في الحوكمة العدلية، وهؤلاء تُيّسر لهم الإجراءات لممارسة حقهم النظامي في اللجوء إلى الجهات الرسمية عند وقوع مظلمة أو مواجهة تهديد، ومما يحسن التنبيه إليه أهمية الدقة في تسجيل بيانات الشكوى أو الادعاء، ثم السير في متطلبات النظام بجدية، فيتساوى الجميع بالانتفاع من الخدمة المقدّمة، ويقابلون إجراءات موّحدة و واضحة، ليست في حاجة إلى توصية أو معرفة، وغني عن القول بأن المملكة العربية السعودية تنافس كبرى الدول برقمنة الخدمات، مما يسّر الأمر على المواطنين والمقيمين للاستفادة منها، فالوضوح الإجرائي، والعدالة في التعامل، يحققان الحوكمة ويُعززان الاطمئنان في نفوس المستفيدين من هذه الجهات.

والموظفين –بمختلف درجاتهم- هم من أصحاب المصلحة، والعناية بمتطلباتهم، ينعكس أثرها على مؤشرات المنظومة بالكامل، و من أهم ما يُعتنى به: التدريب المستمر ، فالموظف على أي مرتبة، بحاجة إلى التدريب والتعليم واكتساب المهارات -بحسب وظيفته-، فالموظف في مركز الشرطة أو في دائرة النيابة أو في الدائرة القضائية إذا كان ممن يُقابل العموم يجب أن يكون في مستوى متقدم من فهم مهارات التواصل والتفاوض، ولتحقيق ذلك فلا بد من تحديد لمستوى الموظفين ومعرفة لقدراتهم بناء على تقييم حقيقي وعادل، ثم من لوازم كمال الحوكمة، أن يكون لدى الجهة لائحة لتحديد المكافآت و متطلبات استحقاقها، إذ لا يصح أن يُساوى بين المُحسن و المقصّر، وأخيراً فعلى المسؤول أن يأخذ بالاعتبار مدى تأثير رأي الموظفين على قراره؛ لأن مساهمتهم في تجويد القرار ترفع من درجة انتمائهم و مثابرتهم، وليس من الحوكمة في شيء، ارتجال القرار و مفاجأة الموظفين بما يمس مراكزهم ومزاياهم، مما سينتج عنه –دون شك- تأثير على أدائهم ثم على مخرجات المنظومة ككل .وسأضرب مثالاً : فلو افترضنا أن موظفاً في إحدى المحاكم يعمل منذ سنوات بكل اجتهاد والتزام، لكن بسبب غياب الشفافية في تعامل مرجعه معه، لم يُدرك أن أداءه دون المستوى المطلوب، ثم لم يتلق التدريب اللازم، وهو يرى زملاءه تتحسّن مراتبهم، مع إخلاصه في الحضور وتأديته لما يُطلب منه! ، هنا لا يمكن أن يقال ( لكل مجتهد نصيب ) إذا كنا جادين في تطبيق الحوكمة، فهذا الموظف لم يُبلّغ بتقييمه، ولم تُعرض عليه فرص لتدريبه ورفض، وبالتالي يجب أن تكون المعالجة كاملة وتبدأ من سياسة الإدارة وممارساتها، مع التنبه إلى أن التقييم الدوري المبني على مستهدفات واضحة يُقيم الحجة والإعذار .

وختاماً : فالمحامون هم من الخبراء الذين جمعوا بين المعلومة و الممارسة، و التعامل معهم بنظرة ( الشريك ) في تحقيق أهداف المنظومة العدلية، ييسّر على صاحب القرار معالجة المشكلات، و تطوير المستهدفات، ومن القصور في الرأي تجنّب استشارتهم بدعوى تعارض المصالح، بل يُمكن أن يكون هناك آليات و ضوابط تحقق المنفعة لجهات الضبط والتحقيق والقضاء من المحامين دون إخلال بالاستقلالية أو العدالة ، وليس ذلك أمراً جديداً أو متعذّراً، فهناك ممارسات عالمية أثبتت أهمية مساهمة المحامين في تأسيس القرار والمشاركة في معالجة العقبات، والغاية هي: إتقان القرارات و تعميم نفعها، وأُشير إلى تجربة ذكرها الدكتور مصطفى عبدالغفار عن محكمة استئناف Rovaniemi في فنلندا التي قامت بتشكيل لجنة من عدد من القضاة والمحامين والمدعين العموميين؛ لتحديد أهداف النظام القضائي، والتي أظهرت ثقافة جديدة للتواصل مع مختلف الأطراف الفاعلة في المنظومة العدلية، وقد حددت أهداف هذا التشكيل بتحقيق الاتساق بين المبادئ والأحكام، وتحسين آلية إدارة الدعاوى المدنية، وتطوير جودة عملية تسبيب الأحكام.

و هنا تساؤل : ألا يُمكن أن نجد حلولاً يمكن تطبيقها في المملكة لتحقيق الهدف من تنويع الخبرات من ( القاضي- المدعي العام والمحقق- رجل الضبط– المحامي ) في رسم الاستراتيجيات المتعلقة بالمنظومة العدلية، مع المحافظة على الحياد والاستقلالية ؟ الجواب نعم ، لذا أقترح بأن يكون هناك لجنة عليا، بعضوية من ممثل عن القضاء، و ممثل عن النيابة العامة، وممثل عن الأمن العام ، و ممثلين من المحامين ، يشتركون في تحديد أهداف المنظومة العدلية ، و يستعرضون العقبات لتتكامل جهودهم في معالجتها، و يستعينون بخبراء في جميع المجالات التي تساعد في تحقيق المصلحة، وقد مرّ معنا في مقال سابق مثال لمشكلة قائمة وهي : تدفق الدعاوى إلى المحاكم ، وذكرتُ بأن معالجتها ليس منحصرة بدور تقوم به وزارة العدل، بل يجب أن تتحدّ جهود جميع الجهات الثلاث للمعالجة، وضربتُ مثالاً بنمذجة موحّدة لبيانات الشكاوى، التي تبدأ بجهة الضبط و تنتهي بالقضاء، و أوجه التعاون والممكنات كثيرة، ما دام المقصد خدمة هذا البلد الطيب وأهله.